المراهق وصراع الأجيال

لا أحد يشك في أنه من أصعب الأمور تحديد هوية الإنسان, وقد أثيرت هذه المسألة منذ بداية الكون من طرف الفلاسفة والمفكرين ومن بينهم سقراط عندما قال :" اعرف نفسك بنفسك أيّها الإنسان". فهو كائن الأبعاد, وهي إشكالية معقدة ومركبة تتطلب أصعب وأحرج ما يبذله الإنسان لحل هذا اللغز المحير.

ولذلك لا نستغرب عندما نجد أحد أقطاب الفلسفة المعاصرة,وأب الوجودية "جان بول ساتر" يولي أهمية    قصوا للوجود الإنساني ويعتبره متميزا عن بقية الموجودات حيث يقول:" إن وجود الإنسان ليس كمثل وجود أي شيء" فالإنسان مزيج من المتناقضات هو الحرية والإرادة والاختيار, وهو مادة وروح ووجدان ومشاعر وفوق الكل هذا هو الكائن المفكر الواعي. والأكثر من هذا الوعي يسمح للإنسان بالعيش مرحلتين متناقضتين مرحلة الشعور ومرحلة اللاشعور وكذلك يمر بأربعة مراحل مختلفة سيكولوجيا واجتماعيا هي الطفولة وخاصياتها’ المراهقة والشباب وخاصياتهما, والكهولة وخاصياتها, الشيخوخة وخاصياتها.

ولأجل كل هذا وقف الفلاسفة والعلماء مذهولين تنتابهم إلى حد اليوم حيرة عميقة حيث أنهم لم يقدروا على التوصل إلى تحديد ماهية هذا الكائن, فهناك من ضمه إلى حضيرة الحيوانات ( نظرية التطوّر داروين) وهناك من فسره تفسيرا ماديا وجعل مشاعره كلها انعكاس حتمي لوجوده المادي (نظرية المادية الماركسية ) وهناك من فسره اجتماعيا( دركا يم وابن خلدون) وهناك من فسره سيكولوجيا حسب المزاج الشخصي (التحليل النفسي لفريد) وحتى العلوم الإنسانية التي حاولت إيجاد مخرج من هذه القضية لم تقدم سوى محاولات أقرب للنسبية منها للنتائج العلمية الصحيحة وما يهمنا هنا هو اعتبار الإنسان موجود ووجوده يشكل مراحل حياتية مختلفة سنحاول التركيز على أحدها وهي مرحلة المراهقة باعتبارها تهمنا كمربين نتعامل معها في حياتنا اليومية.

ما هي المراهقة وما هي أسسها العلمية؟

المراهقة: هي حلقة التغيير والتحوّل من الطفولة إلى الشباب وكل الدراسات مهما اختلفت أنماطها فإنها تتفق على تحديد مفهوم المراهقة بأنها أصعب فترة بالنسبة للإنسان فهي مرحلة الثورة والتحدي والتحوّل, فهي مرحلة التذبذب والشذوذ, وهي المرحلة التي تعقب الطفولة تجزئيها أي تبدأ مع سن الثانية أو الثالثة عشر إلى حدود سن السابعة أو التاسعة عشر هذه المرحلة تغطي جزء من حياة الإنسان الدراسية والتلمذية ووهنا سيجد مسئولين من إداريين وقيمين ومدرسين يسهرون على تأطيره ومتابعته لكن هؤلاء ينتمون إلى جيل أو أجيال وهو ينتمي إلى جيل آخر وكل جيل له ترتيبان حياته الخاصة وهنا تكمن إشكالية التوتر والصراع بين المربي والتلميذ. وما يجب فهمه هنا هو اعتبار تكوين توازن الشخصية لدى الطفل أو لدى المراهق من أهم أهداف التربية إذا يمكنهم ذلك من السيطرة على سلوكهم ويوضح لهم موقفهم من البيئة ومن أنفسهم وإذا أردنا البحث والإطلاع عن الأسباب التي حتمت ظروف المراهقة فهي: بجيولوجية فزيولوجية, سيكولوجية, اقتصادية, اجتماعية, وثقافية.

الجانب الفزيوبيولوجي:

هي فترة نضج الجسم حيث تطرأ عليه تغيّرات وتظهر عليه علامات لم يعهد ها صاحبها " الطفل" مثل تغيّر الصوت, نضج الجهاز التناسلي, قوة الطاقة الجنسية والتي تحتم بالضرورة الميل الطبيعي إلى الجنس المقابل الذي يصطدم بالقوانين الاجتماعية فيولد لدى صاحبه ما يسميه فريد "بالليبيدو" أي الطاقة الجنسية المكبوتة كل هذا يجعل المراهق يعيش حالة لا شعورية حالة إحباط تجاه نفسه واتجاه غيره وهذا يضفي إلى تكوين عقد نفسية.

 الجانب السيكولوجي :

 إلى جانب النضج الجسمي ففي هذه السنّ من العمر يدخل الإنسان مرحلة النضج العقلي حيث يصبح أكثر وعيا بمحيطه وهنا يصطدم بإشكالية التذبذب النفسي بين مراحل الشعور واللاشعور كما حددها فريد في التحليل النفسي فيعيش الإنسان في هذه المرحلة صراعا داخليا وخارجيا بين ثلاث حالات هي "الأنا" و" الأنا الأعلى" و"الهو".

الهو هو الذي يمثل العواطف والدوافع الغريزية ويجلب الإنسان إلى حب الإشباع الغريزي وخاصة الجنسي منه فهي حالة لا شعورية خالصة وفي نفس الوقت يجد نفسه يعيش تحت سلطة الأبوين والمجتمع الذي يفرض عليه نمطا حياتيا محددا وقيما أخلاقية معينة وهو الأنا الأعلى , مع كل هذا الأنا يكون حاضرا هو الآخر يمثل الشعور, العقل, التفكير السليم والذي يحاول التوفيق بين الحالتين المتناقضتين السالفي الذكر, إذا يجد المراهق نفسه لعبة في أيادي مختلفة كل يملي عليه نمطا معينا بين تغليب شهواته التي تفرض نفسها وبين قراءة حساب للمجتمع الذي هو الأب والشارع والمربي بالمعهد, وبين التظاهر أمام غيره بحب التفوّق ومع كل هذا لا ننسي الطريقة التربوية التي أخذها وهو طفل والتي بالضرورة لا نستطيع فصلها عن ما بعدها أكيد أن لها انعكاس على مرحلة المراهقة فقد تكون تربية قوة مثلا لأن والده عسكري, وقد تكون تربية ميوعة لأن الأب مطلق أو متوفى وغير ذلك من الحالات المتناقضة أمام كل هذه المتغيرات أعتقد أننا لا نستطيع أن نلوم المراهق على ما فعله ونحاسبه بسعر ونضعه

الجانب الاقتصادي :

 تكثر مطالب المراهق ونفقاته مقارنة بمرحلة الطفولة سواء ذلك في الأكل  أو في اللباس أو في قضاء أوقات الفراغ من دور الثقافة وغيرها فكان صغيرا يرتدي أي لباس تقدمه له أمه ارضاءا لها , أما في مرحلة المراهقة فهو يريد إبراز ذاته أمام زملائه و المجتمع ويريد ثوبا يرضي به المجتمع والزملاء. وعادت ما يكون من أسرة متواضعة الدخل لا تقدر على تلبية كل متطلباته مما يوّلد في نفسه نقمة على الوضع الرديء وربما تكون عاقبة ذلك وخيمة" سارق" أو "منحرف أخلاقيا". وإما أنه ينتمي إلى عائلة توفر له كل مطالبه دون مراجعة فينتهي به إلى الانزلاق في المتاهات مثل الزنا , والتدخين وهنا تكون الطامة الكبرى.نستنتج إذا أن الوضع الاقتصادي هو عنصر هام من العناصر التي تؤثر سلبا أو إيجابا على المراهق.

الجانب الاجتماعي:

 لا يمكن فهم المراهق خارج وضعه الاجتماعي خاصة وأنه إنسان فاعل في الوسط بيئي محدد وقد أجمع كل علماء الاجتماع وخاصة ابن خلدون ودركا يم على أنه لا وجود لإنسان بمفهوم الإنسانية على المستوى الفردي الإنسان بطبيعته حضارة ومجتمع وقد أجرى "سريرياكوفا" تجارب ودراسات على حياة الطفولة وما تخلفه من بعدها من تحديد لشخصية المراهق وهنا يلتقي مع فريد الذي يقول "أن الطفل أب الرجل"فتوصل إلى النتيجة التالية:

أ/ مجموعة تتسم بالدقة في تقديرها للذات

ب/مجموعة تبالغ في تقدير الذات (أكثر ثقة في أنفسهم)  

ج/ مجموعة تبخس نفسها (أي غير واثقين من أنفسهم)

وفي ما أعتقد أن المجموعة الثنية هي المجموعة الغالبة : فالمراهق يتباهى بنفسه وبذاته وتحديه لكل القوانين ورفضه أي سلطة توجه له سواء كانت من المربي أو حتى من الأبوين اعتقادا منه انه أصبح ناضجا وواعيا وقادرا على الاعتماد على نفسه وتخطيط مصيره ومستقبله ويرفض كل وصية , الصحيح لديه هو ما يراه هو فقط وما يرضي زملائه دون مراعاة وضعه وواقعه هل هو قادر على ما يريد تحقيقه أم لا.

الجانب الثقافي :

 لا يمكن أن نتغافل على الوضع الثقافي والسياسي الذي يشكل قوة توجيهية كبيرة خاصة لها تأثير عميق على شخصية الإنسان في فترة المراهقة باعتباره سريع الانفعال وكذلك محب للمظاهر .فالنظام السياسي اشتراكيا كان أو رأس ماليا لابد أن يكون له توجه ثقافي مبرمج وهادف تنعكس من خلاله حياة المجتمعات وتربي بها النشء فالسينما و المجلات والصحف و الكتب و الإذاعات و التلفزة كلها تساهم  بقوة في تحديد توازن الشخصية إضافة إلى كل هذه العقائد السائدة وخاصة العقيدة الدينية فالمراهق المسلم يجد نفسه في إطار بيئي ملتزم بقواعد محددة ولكن عندما يقرأ عن مجتمع أو يشاهد أفلاما عن مجتمع غير مسلم يجد نفسه في جو مغاير آنذاك تنتابه حيرة وتساؤل ويقف أحيانا أمام الوضع مستسلما أو تكون ردة فعله عنيفة.

المراهق والواقع:

انطلاقا من كل هذه المعطيات والمفاهيم و الأنماط تحدد شخصية المراهق التي وصفناها سابقا بالثائرة والمذبذبة أي أن واقع المراهقة هو واقع صعب ومتقلب ولكن إذا حللنا وفهمنا فإننا نقول أن كل هذه الظواهر مفروضة على الإنسان وليست له فيها لا ناقة ولا جمل فالأسباب عديدة وهي التي حتمت عليه أن يعيش نمطا لا شعوريا فهو إنسان وقد أثرت الفلسفة الوجودية على  مدى مسؤولية الإنسان وحريته في أفعاله حيث يقول سار تر " إني أنا مسئول على الحرب وكأني أنا الذي أشعلتها" إذن هل نحمل فعلا المراهق مسؤولية كل أفعاله ونحاسبه عليها أم نعتبره إنسان غير مسئولا وليست له حرية فيما يفعل ونرفض  الموقف الوجودي؟

أعتقد أن المهتم والواعي بتحديد معنى المسؤولية الواعية يبرر ساحة المراهق من نتائج أعماله وبالتالي يتعامل معه على أساس الحذر من ناحية وعلى أساس جعله إنسانا قابلا للتفاهم دون وضعه موضع الاتهام والإجرام وبناءا على ذلك يصبح التعامل بينه وبين المربي سواء كان قيما أو مدرسا أو غير هما أسسه الجدل والحوار فإذا كان رافضا لأية وضعية ولأي سلطة فوقية فذلك يعني أنه أصبح شاعرا  بتحمل المسؤولية ولذلك نترك له إمكانية تحمل المسؤولية مع الحذر.

دور المربي بصفة عامة والقيم بصفة خاصة إزاء المراهق

إن عملية التربية في مرحلة المراهقة ليست خاصة بالقيم بل هي مشتركة بين الأبوين و الشارع والإدارة إلى جانب المدرس ولهذا المطلوب هو أن تكون العملية مبنية على التنسيق بين كل هؤلاء حتى لا تقع تهميشها لأنها مهمة صعبة في مرحلة دقيقة حيث أن المراهق لم يعد ذلك الطفل الذي يقبل ويقلد بسهولة ولهذا فتأطير المراهق يجب أن يكون مبني على أسس علمية موضوعية تهدف إلى بناء جيل المستقبل الذي تنتظره البلاد يقول علماء النفس في هذا المجال " أن المهمة التربوية في سن المراهقة تتمثل في تكوين سلوك حياتي يصبح أكثر استقلالا و أكبر قيمة للمجتمع"

لهذا علينا كمربين أن نجابه ظواهر عديدة لانعدام الاستقرار الانفعالي في هذه المرحلة من الحياة غاضين النظر عن تأخير الطور في التسارع والتأثيرات التي تقلب التعايش  , وهنا تمكن الأهمية العظمى لشخصية المربي وعلاقته الطيبة مع كل تلميذ في تكوين الوعي والنضج لديه.

ما هو المطلوب من المربي

للمربي دورا كبير في تحديد وجهة التلميذ فهو  أقرب إليه من الأب ومن العائلة لذا يجب عليه أن يجعل منه شخصا متوازنا مع نفسه ومع غيره يوجهه نحو الاستقلال التربوي فيجعل التلميذ يدرك بنفسه قيمة مجازاته عن طريق التقدير المحايد ويصحح له الأفكار الخاطئة بعد اكتشافها و أن يوجهه نحو تثقيف الذات وهذا يكون بتحريضه على الفاعلية والنشاط مثل المطالعة , والرحلات, والحوار السليم وغير ذلك.كذلك يوجهه إلى طريقة التعامل الصحيح والتكيف السليم مع محيطه وبيئته يقول بوفيه" أن الحياة لا يمكن تعريفها إذا أهملنا قدرة الكائن الحي على تلبية دواعي البيئة لأن الحياة تنطوي على التلبية ورد الفعل وهذا هو النشاط والحركية والفاعلية".

إن توجيه المراهق لا يكون بأسلوب عمودي بل بأسلوب أفقي مع مراعاة الأسس العمودية المجردة فإصلاح الخطأ لا يكون بالخطأ بل بالصواب .إذا التعامل مع ثورة لا يكون  بالثورة يعني إذا كان المراهق متحديا فلا نجابهه بالتحدي بل حكمة المربي في امتصاص ثورته وتحديه فمثلا إذا ظهر لنا تلميذ غير منضبط وله عقدة نفسية مثل عدم الوقوف في الصف أمام الفصل فلا نصب كل غضبنا نحوه ولا نعنفه بل نفهم  أن ذلك هو محاولة منه لإبراز الذات أمام الغير ,إذا دور المربي هو كيفية تهميش العملية بكل لباقة مع ابتسامة ثم الحوار معه في فرصة ثانية لإقناعه بأن الوقوف في الصف ما هو إلا طريقة معروفة في كل العالم الهدف منها هو انضباط واحترام النفس والغير ,كذلك ربما البعض من المراهقين يشمئزون من الوقوف لتحية العلم صباحا فيتظاهرون بالتأخير , وهنا مهمة المربي ليست مجابهة بالعقاب أو تأويل العملية إلى أهداف أخرى بل كذلك جمع هؤلاء التلاميذ ومحاورتهم مبرزين قيمة العلم باعتباره رمز الوطن والوطن هو حاضنا وهو حياتنا ومستقبلنا وثقافتنا, لكن إذا ظهر لنا البعض ممن لا يهضمون هذا النوّع من الحوار والتعامل ووصلوا في تعنتهم ورفضهم للانضباط القانوني واستنفذنا معهم كل الطرق التربوية فلا يعني أننا نقف حائرين بل نلتجئ آنذاك للزجر والعقاب دون تشفي ودون اعتبار أننا  نحكم على مجرم بل كذلك عقابه مع الحوار معه وإقناعه بالعقوبة ولماذا استحقها مع الأمل في عدم الرجوع إليها , أما عن المتناقضات الموجودة في أساليب الحياة بين الأجيال فحتى وإن وجدت وشعر بها المراهق فإن مهمتنا إزاء هذه الظاهرة تبقي بارزة ويجب أن تكون كذلك وعلينا ومن خلال حكمتنا أن لا نترك له فرصة للإحساس بأي فراغ وبأي ثغرة بين جيل وآخر وذلك بمحاولة التعامل اللين معه والإقناع بان الأجيال وتعاقبها ما هي إلا علاقة جدلية اجتماعية طبيعية الهدف منها مواصلة أعمار الكون بأكثر ما يمكن من الأشخاص وليس للتناحر وما التغيير الذي يقع بين الأجيال في نمط الحياة ماهو إلا عملية تطوّر عادية نتيجة للتحوّلات التكنولوجية والعلمية ونبين له أن كل ذلك زائل ومتغيّر لكن الأخلاق والضمير والحب والتفاني والتعاطف بين البشر هو وحده الباقي.

وفي الختام يمكن القول بأن المراهق حتى وإن أصبح غير قابل للتلقين والأخذ بآراء الغير فإن تقربنا منه وإعطائه الثقة في النفس مع محاولة أبعاده وتجريده كليا من الكراهية والغيرة والتمركز حول الذات والحقد كل هذا يساعده على أن يكون  شخصا متوازنا ولو نسبيا يجب أن يعي بأنه يعيش بوسط آمن لا نترك الفرصة في التفكير بأن الكل في كفة وهو وحده في كفة ثانية مستهدفة للأخطاء والحساب , بل يجب أن نشعره بأنه منا وإلينا أي هو نحن و نحن هو وفي كلمة واحدة التعامل مع المراهق في الظروف التي يعيشها لا تكون أبدا بالقوة بل كما قلنا الحوار والصداقة أي علينا كمربين أن نتفهم جيدا الوضع المعقد والصعب الذي يعيشه المراهق.

الأستاذ: محمد بن فرج