رحمة الموت

 

نعم يا سيّدي القاضي.... قتلته بيدي.... خنقته .... أدار رأسه في محاولة يائسة محولا التخلّص من قبضتي فلم يتمكن .... صرخ بصوت متهدّج ضعيف : ما ما ....أخرج لسانه ثمّ احتضنه الموت مادا إليه أذرعه ليحتضن طفلا في ريعان الصبا تلمست أطرافه الباردة وغسلتها بدموعي التي انهمرت من مقلتي, تحسست جثّته الصغيرة الهامدة ومررت يدي على وجهه وألقيت عليه نظرة أخيرة ثّم واريته التراب في تلك المقبرة التي واريت فيها أباه من قبل, ثّم مضيت و لم يبق لي أحد في هذه الحياة.

كنت أسير وأحاول أن أبرّر لنفسي أن الذي فعلته هو أنسب شيء, قتلت ابني وقلبي ينفطر ألما كنت متأكدة بأن الموت رحمة, وقد أثبتت لي الأيام صحّة هذا الشعار "الموت رحمة".

لقد مات أبوه جوعا بعد معاناة واجهته طوال حياته لكنّي واجهتها معه, وصبرت على الشقاء مع أنّي لم أر يوما سعيدا في حياتي, أنجبت هذا الولد وبعد موت والده. تألمت كثيرا وتساءلت عن مصيره: لماذا يعيش في هذه الدنيا المؤلمة والجوع والحرمان يداهمه ؟

كان يوم مولده يوما تعيسا, كنت وحيدة لا ملجأ لي بعد موت زوجي, رحلت إلى مكان ألد فيه, مكان مهجور لا أحد فيه سوى كوخ حقير, صرخت بأعلى صوتي فلم يجيبني أحد, دخلت فوجدت رجلا طاعنا في السن طلبت مساعدته لكنّه لم ينبس ببنت شفة وظلّ قابعا صامتا ....ومازال كذلك حتى زهقت روحه ومدّ الموت أذرعه ليحتضن وسيلة النجاح الوحيدة بالنسبة لي, وفي تلك اللحظة تمنيت لو أن الأرض انشقت و ابتعتني ولم أشعر بنفسي , كيف علا صوتي ولم أفق من دهشتي إلا وأنا أرى الناس يتدفقون أفواجا أفواجا وكأن أحدا يقيم مأدبة عشاءا, استفسرت فعلمت أنّ الذي مات هو ولي صالح.

آنذاك التفت إلى الجميع ناظرة إليه باشمئزاز واحتقار واتهموني بأني السبب في موته ففقدت وعي من هول ما سمعت, وعندما أفقت وجدت نفسي على سرير صغير وابني بجانبي وأمامي امرأة ترمقني تبدو على وجهها سمات الطيبة, فارتاحت نفسي وغمرتني الفرحة لسلامة مولو دي , لكن أنّ لمثلي أن يفرح فقد فوجئت بثلة من الناس يهجمون على البيت داعين المرأة المسكينة لأن تطردني بعد أن ساعدتني أثناء الغوغاء خطرت ببالي فكرة : اندفعت نحو الباب محتضنة ابني , وصحت في وجوههم : " لقد وهبني الولي الصالح كرامته في هذا الملك الطاهر".

فتراجع الجمع متمتمين بتعاويذ لم أفهم فحواه سوى أنّها من سخافات الشيخ وسذاجة عقولهم.

منذ بزوغ ضوء اليوم جديد أخذّت ابني وغادرت المكان, كاد الجوع أن يقضي على الطفل وحينما تمكن منّا الجوع و العطش لم يكن أمامي سوى التوسّل للمارة .كنت أرى في ذلك فرجا لولا امرأة مددت إليه بحسنة فأجابت بصوت ملؤها الغضب والشرّ والكراهية :

-          " اشتري عارك يا امرأة".

فاقشعر جسدي وشعرت بلا ذل والهوان ,واصلت السيّر مادة يدي متسوّلة فكانت بعض الأيدي تمتد إلى الجيوب لتجود عليّ ببعض القروش وأخرى تنهرني متجاهلة حاجتي, مازلت كذلك حتى جمعت ثمن تذكرة قطار لأعود إلى قريتي وإلى أهلي, عندما وصلت لم أجد عندهم خيّر ممّا لقيت بعيدة عنهم, كانوا ينظرون إليّ نظرة احتقار, فكنت أتألم وكاد قلبي ينفطر لهول ما لقيت. فأحسست بظلم هذا العالم وكأنني أعيش بين وحوش لا بين بشر لا رحمة في قلوبهم.

وعدت أهيم وابني بذراعي يبكي ويصرخ صراخا مؤلما, وكان فؤادي يتمزّق لتمزّق أحشائه جوعا, في ظلّ هذه الظروف أثبتت لي الأيام أنّ وجود ابني في هذه الحياة خطيئة لابد من إصلاحها, وبدأت تراودني أفكار شيّطانية ما كانت لتساورني لولا ما لقيته من إذلال وتجاهل واحتقار, فدفعت دون شعور لسلب ما في جيوب الآخرين لكنني لم أصبر على ذلك ولم أحتمله فوجدت نفسي هائمة سائرة إلى مكان مقفر محتضنة طفلي  لاعنة الوجود, غائبة الوعي وفي حركة لا شعورية امتّدت يدي نحو عنقه وخنقته, أدار رأسه في محاولة يائسة للتخلّص من قبضتي لكنّه قبل أن يكمل دورته كانت أنفاسه قد انقطعت ومدّ الموت أذرعه ليحتضنه وينتشله من قذارة الحياة وظلمها, ثم واريته التّراب وها أنا أمام حضرتكم جئت مسلّمة نفسي معترفة بما اقترفت وصورة ابني لا تفارقني وجثّته الصّغيرة الهامدة ويديه الّتي غسلتها بدموعي وتلمّستها فاحكم علي بالشنق أيّها القاضي . فلماذا أعيش بعد أن احتضن الموت أعزّ ما لدي , زوجي وابني الذي عجلّت بموته لأريحه من عناء الحياة التي تملأها الأنانية والعنجهيّة : أغنياء ينعمون برغد العيش وفقراء يقتلون أبناهم حتى لا يموتون جوعا. فأين عدالة الكون ؟ أرجوك عجّل بموتي أيّها القاضي.....

نادية بن خليفة