لتكن مثلنا.......

تعودت أمهات فلسطين أن يزغردن ويقمن الأفراح كلما رجع أبنائهم محمولين على الأكتاف وهم شهداء أبرار.

عائشة هي امرأة مثلهن, مات زوجها في الحرب وترك لها ابنين اسماهما خليل وعلي, وكان خليل في العقد الثاني, أما أخوه في العقد الأول. قاومت عائشة كثيرا لكي تربي أبنائها على أحسن وجه, علمتهم حب الوطن و الدفاع عنه والتضحية في سبيله. ابنها خليل اتجه نحو هذه القيم الروحية والمبادىء الإنسانية وتشبع بالروح الوطني لذا انظم إلى المقاومين يدافعون عن أراضيهم ويطالبون باستقلالهم وحريتهم وحقوقهم. ورغم ذلك كانت ألام خائفة على ابنها الأكبر, اشتد بها الخوف لكنها تغلبت عليها روح الكفاح والتضحية في سبيل الوطن وصارت تزوّدهم بالمئونة.

جاء اليوم الموعود, قرر خليل الخروج من المنزل وأخبر أمه بأنه سيشارك أصحابه في الدفاع عن الوطن , فقبلته أمه تقبيلا حارا ونزلت الدموع السخية من ناظريها وضمته إلى صدرها فوجد خليلا صدرها مرتعشا يهتز اهتزازا عنيفا من شدة بكائها وأحست الأم أنه سيكون الوداع الأخير , راقبته وهو يجري بين المنعرجات ويدها على صدرها طالبة من الله أن ينصره.

اجتمع خليل مع أصحابه وقرروا الالتحاق بالمجاهدين ليدافعوا عن وطنهم مهما كلفهم الأمر, صاح خليل بشجاعة وعزيمة وذهبوا كلهم إلى المكان المقصود. أخذوا السلاح وتوّغلوا في الأجمات وتسلقوا الجبال والمرتفعات وكان خليل يجري معهم وقد انتابه الحزن وتأثر تأثيرا بالغا بأنّه فارق أمه ومع ذلك سرعان ما دبت في عروقه روح الدفاع, وفجأة صاح أحدهم "هيا تخبوا, العدو قادم" فاختبئوا وراء الصخور وصاح قائدهم:" أيها الفدائيون أحضروا إنهم قادمون" وعندما سمعوا هذه العبارة بعثت في نفوسهم الخوف فهدأهم خليل وأمرهم بالمحافظة على الهدوء و السكينة والنظام حتى لا يسمعهم الأعداء فيفشل مخططهم.عمل الفدائيون بنصيحته وأطاعوه , وأصبحت لهم إرادة قوية وتذكروا أن الذعر يلحق بهم المكروه والفشل فهموا أن للمهارة والذكاء والفطنة أثر كبير في تحقيق النصر. ساد سكون عميق وانتظروا مرور الدبابة الوحيدة أمامهم وبعد برهة ظهرت عشرات المدافع ومجموعة من الجنود تسير ورائها, فعم الخوف جميع المجاهدين وعاد خليل يهدئهم وقال مبتسما وفي وجهه علامات البهجة و الغبطة:" سأتسلق بمفردي هذه الصخور وسألقي القذيفة لتحرق بعض المدافع ويموت بعض الجنود وأنتم تبدؤون عندئذ في طلق الرصاص". تسلل خليل كالثعبان وعلى ثغره ابتسامة هادئة حتى وصل إلى المكان المقصود وألقى القذيفة, فألحقت أضرارا بليغة بالصهاينة واستولى الرعب والفزع قافلة العدو فاختبئوا وراء الصخور لكن طلقات الفدائيين أصابت سبعة جنود بعد أن انفجرت القذائف بدون توقف. وكانت المعركة حامية الوطيس واستشهد سبعة أبطال و لم يستطع بقية المجاهدين إلا أن يتراجعوا لأن الصهايّنة ردوا بقوة و ألحقوا بهم العديد من الأضرار. تراجع الأبطال ومن بينهم خليل, فرغم جروحه العميقة ودمائه السائلة فإنّه كان مرفوع الرأس منتصب الهامة, ما لبث أن أغمي على خليل من شدة الوجع بسبب تلك الرصاصة التي أصيب بها. بقي المجاهدون على حالتهم في الجبل حتى حضر الطبيب, ومن شدة الوجع تم نقلهم إلى المستشفي حيث توفت أجل البعض وبقي خليل مع ثلة منهم.

بعد يومين شفي خليل فعاد هو أصحابه إلى الجبل ومن الغريب أنه لم يفكر في زيارة أمه التي قلقت عليه كثيرا. وجد خليل أصحابه على أهبة الاستعداد لمكافحة العدو الظالم لكن عندما هموا للخروج تفطنوا إلى ووجود أعداد كبيرة من الغزاة وأبصروا طائرة استكشافية تحلق فوقهم وفجأة ارتفع صوت خليل قائلا:" إلى السلاح إنهم هنا... إلى السلاح" وفي لحظة كانت الأسلحة في الأكف وقفز خليل فشاهد آلاف الجنود صاعدين الجبل,ففهم أنهم مطوّقون فقال "لا بد من المحاربة, سنعطيهم درسا في الفداء والبطولة" وهجم الفدائيون بحماس وشجاعة على الأعداء , فألحقوا بهم خسائر فادحة في الأرواح والمعدات, أما خليل فبقي ممددا على الأرض رافعا سلاحه وبيده الأخرى علم بلاده وهو يقول بصوت عال :" يا وطني لقد شربت من مائك وتنشقت من هوائك... سأحميك بسلاحي وأفديك بروحي" وما أن انتهي من ذكر هذه العبارة حتى أصابته رصاصة العدو فأزهقت روحه الطاهرة, ونزلت البندقية والعلم على صدره وأصبح جسمه جثة هامدة, رحم الله خليل المجاهد الذي ضحى بنفسه وروحه من أجل الوطن.

وفي الصباح استيقظت الأم على جلبة وضوضاء في الخارج, فخرجت لتستطلع الأمر فوجدت مجموعة من الناس متجهين صوبها وبسرعة انتابها القلق فهي منزعجة لطول غياب خليل عنها.أدركت الأم خطورة الموقف خاصة وأنها شاهدت جثّة محمولة على الأكتاف, عندها أيقنت أن ابنها خليلا قد استشهد. أحست نفسها أمام هذا الموقف الصعب منهارة, ترى هل ستجهش بالبكاء والعويل وتحزن لفقدان ابنها الأكبر أم ستزغرد وتفرح من أجل استشهاده وكفاحه؟ الكل ينتظرون ردة فعلها, وما أن تيقنت من الأمر حتى بدأت تزغرد والدموع تنهمر, وارتفعت الزغاريد منكل صوب.

جلست عائشة حذو ابنها الثاني علي وضمته إلى صدرها ونامت نوما عميقا. في الليل الدامس استيقظ علي وتسلل خفية دون أن تلحضه أمه فتتوسل إليه أن لا يذهب للانتقام لأخيه من العدو الظالم. التحق علي بالفدائيين, حمل إليهم رسائل العائلة, وابلغهم عن تحركات العدو, كان علي يخفي الرسائل في حذائه ويمر أمام دوريات العدو بكل شجاعة. وعند طلوع الشمس أتم علي عمله على أحسن وجه وعاد إلى المنزل مسرعا قبل أن تتفطن أمه.

وفي اليوم الموالي استيقظت الأم على صياح الديك, فنظمت البيت وخرجت إلى الشارع تتحدث مع الجارات , فأخبرها علي بأنه سيلهو بالكرة مع أترابه, فسمحت له بذلك , وكان في الحقيقة ذاهبا لتنفيذ أوامر الفدائيين. وصل علي إلى المكان المتفق عليه, وهناك وجد رجلا يدعى إبراهيم حاملا حقيبة من السلاح, فأعطاه إياها وأمر بالحذر والفطنة إلى نفسه, تأبط علي الحقيبة وكانت ثقيلة جدا. دخل علي المدينة فرأى أمامه جنديا أشقر خبيثا يحمل رشاشة بين يديه. مر علي من أمامه فصاح الجندي: " قف أيها الولد الشقي, ارني ماذا تخفي في هذه الحقيبة؟" فذعر الولد وغص بريقه وأحس أن قلبه يغرق في جوفه ويخفق كخفاقات الطير الصغير المسكين الذي امتدت له يدا عابثة لتأخذه من وكره.لكن سرعان ما عادت إليه رباطة جأشه وأجاب متأرجحا محفظته:" إني أحمل فيها آلاف الدبابات ومئات المدافع وملايين القنابل إن كنت تبحث عما تحتوي" استملح الجندي نكتته ودفعه قائلا:" عليك اللعنة امضي في سبيلك" فمشى الطفل ببطء وعندما ابتعد بدأ يسرع في خطاه ليكون في الموعد قبل مجيء الصهاينة.دخل علي الجبل و هناك قدم لهم المحفظة . وعندما هم بالعودة اكتشف أن الأعداء قد أحاطوا بالموقع. لم يخف علي ولم يخش بطشهم واستلم السلاح وراح يطلق النار صوب الأعداء, وبينما هو كذلك إذا دنا منه رجل وقال له:" أتستطيع أن تتسلل وتضع هذا اللغم بالقرب من تلك الصخرة الكبيرة, أين يوجد العدو؟" وافق علي دون تردد وأقبل على هذا العمل بروح كفاحية علية. رغم صغر سنه, أخذ علي اللغم و خبأه بين الصخور وأشعل النار في الفتيل, وبعد لحظات ارتفع دوي انفجار وظهر دخان كثيف ونيران متوهجة...خلف ذلك الانفجار كثيرا من القتلى والجرحى في صفوف العدو, فرح "علي" للانتصار وحمل بعض القنابل اليدوية وأخذ يرمي بها الصهاينة لكنه لسوء الحظ أصيب برصاصة من الخلف أردته قتيلا.

أحضرت الأم العشاء وبقيت تنتظر رجوع علي من اللعب -هي لا تعلم أن ابنها الصغير قد فارق الحياة والتحق بالشهداء الأبرار- لما أبطأ, خرجت الأم للبحث عنه, قصدت ساحة القرية حيث كان علي وزملائه يتخذونها مكان للعب فلم تجده, سألت أصدقائه:" أين علي, أليس معكم؟ فأجابوا باستغراب "لا لم يشاركنا اللعب منذ أيام".

بحثت الأم في كل مكان لكن دون جدوى, وعادت إلى منزلها والحيرة تنهش قلبها, ولم يراود النوم جفنيها طوال الليل....عند الصباح, قامت عائشة على بكاء النساء بالقرب من منزلها "ترى ما الأمر" أسرعت الأم إلى الخارج لتستطلع الأمر....إنه جثمان ابنها علي محمول على الأكتاف....خارت قواها من هول المصيبة....لكنها تجلدت بعد أن ألهمها الله الصبر وانطلقت الزغاريد....و قلت الأم بصوت عال عانق عنان السماء:" هذا عريس فلسطين....هذا شهيد الحرية والتحرير...الله أكبر....الله أكبر....تحيا فلسطين ....الموت والخزي للصهاينة الأنذال...."

زياد ساسي      

أحرزت هذه القصة على الجائزة الأولى في مسابقة القصة تنظيم المكتب الجهوي للشبيبة المدرسية