عمار .....الشجرة المعمرة

عمار طفل ذكي ومجتهد ,يقضي وقته كل يوم بين الكتاب ودار الشباب والثقافة , أحب مخالطة الكتب فأحبها وشغف بفن التمثيل أيما شغف .اتخذ عمار ركنا بالبيت ينزوي إليه كلما أحس بالوحدة ورغب في الأنس يعيش مع أبطال كتبه يحركهم ويحركونه , يخاطبهم ويخاطبونه ,يحاورهم ويحاورونه ,جعل منهم خاصته ورفقته مع هذا يعيش في صحاري الثلوج والجليد ,يمرح على الزلاجات ,ويداعب الفقمة العجوز والبطريق اللطيف .مع هذا البطل يقضي أحلى أيام في جزيرة جميلة بعيدة يغازل الأسماك ويعلم جمعة اللغات , ويعيش مع هذا الشاب الزنجي في أدغال إفريقيا يلاحق الوحوش والحيوانات البرية ويداعبها ويتفنن في ممازحتها ومطاردتها  في عرينها فينشأ بينهما صراع,هو صراع للحياة دون عبث أو قتل صراع للغذاء دون وحشية أو جريمة.

عمار مل الحدود بين البلدان وكره جوازات السفر , وتقسيم مياه البحار .فوجد في كتبه عالما بدون حدود ومطارات بلا شرطة, ولا قمار ق , وغابات أشجارها الزبرجد, وأزهارها اللؤلؤة المنثور. فانتقل يرقص مع الأفيال ويداعب التماسيح أو يسابق الغزلان في أرض نسيمها عليل وشمسها ساطعة يرتوي من مياه عذبة في واحات كلها ظل ظليلا.في هذا الجو الحالم , وسط هذه الكتب الجميلة والصور الراقصة , يعيش عمار بطلا يحاكي الأبطال ,وعصفورا ينتقل من مرج إلي مرج ومن بستان إلى بستان تنقاد له الدنيا وتتسع خشبة المسرح أمامه ,فيتحرك فوقها بلا خوف ولا وجل .فتتمازج الصور عنده وتختلط كرسم فني أبدع فنان في إخراجه في لوحة رائعة مالت لها الأعناق وشدت الأنظار وملكت الإعجاب .وذات يوم تلقى عمار دعوة من ابن عمه الذي يسكن قرية صغيرة غير بعيدة عن المدينة التي يقطنها عمار , ولكنها قرية جميلة تحيط بها غابات الزيتون, غابات ضاربة في عمق التاريخ, تروي جهد الأجداد وسعيهم لهذه الأرض بعرقهم وأحلامهم وتتفتح في أطرافها آبار يتفجر منها ماء زلال.

وجدت هذه الدعوة هوى في نفس عمار خاصة وعطلة الشتاء على الأبواب , والشتاء يأخذ عصاه  السحرية في هذه القرية, ويداعب بها الطبيعة , ويدخل معها في لعبة التنويم المغناطيسي. فشد الرحال ,ووصل إلى القرية حيث استقبله ابن عمه خير استقبال , وأعد له غرفة صغيرة في دارهم الواسعة.

خرج عمار صباحا ليشم النسيم العليل , ويصافح الطبيعة وهي تستفيق وتتثاءب مع أول خيوط الشمس المستحية هذه الأيام وساقته خطاه إلى غابة الزيتون المجاورة , وتوغل بين الأشجار المورقة المثقلة حبا يتلألأ , ويكسوها حلة جميلة فتبدو وكأنها عروس ليلة زفافها . وشدت انتباه عمار شجرة معمرة قد شاخت وهرمت , فضخم جذعها , وتدلت أغصان التوت كأنها تحصي السنوات , وتعاند الأيام في أبهة وشموخ. فاقترب منها وبدون شعور منه مد يده ليقطف غصنا طريا بدا كأنه يضحك ويسخر منه, وقبضت أصابعه  على الغصن اليتيم ولكن الأصابع جفت ويبست وعلا من الجذع الخشن صوت أجش أجفل له عمار وانتابته الرهبة وطغت عليه المفاجأة .

-         مالك يا بني؟ كف عن العبث واترك البرعم ينمو ويرقص إنه ابني الجديد وهو مصدر سعادتي وافتخاري.

-         شجرة....شجرة تتكلم.

-         نعم يا عمار , أنا شجرة أفهم لغة البشر , تعلمتها على مر العصور والدهور.

-         لا بد أنك عشت سنوات عديدة.

-         يا بني حب الإنسان ,ولذة عرقه , وعرفت سعادته وفرحته وغضبه وصولته وسلمه وحربه.

-         ليتني عرفت مثلك الحضارات على مسيرة الأجيال.

ابتسمت الشجرة في لطف وقالت:

-         عمار.... عمار, مد يدك يا صغيري ....إلى هنا....هناك.....

-         أين أيتها الشجرة اللطيفة؟

-         إلى هذه الفتحة في أسفل الجذع حيث بقايا عش هدهد.

مد عمار يده فعثر على غصن زيتون يتلألأ تحت أشعة الشمس الذهبية فوقف حائرا مبهوتا أمام هذه التحفة الرائعة. قالت الشجرة بصوتها الأجش الحكيم.

-         هذه هديتي لك يا عمار حافظ عليها ولا تفرط فيها أبدا.

-         وما عساي أن أفعل بهذا الغصن أيتها الشجرة الحكيمة.

-         إني أعرف حبك للكتب ورغبتك في القيام بجولات عبر التاريخ فإذا أردت أن يتحقق حلم من أحلامك اقطف حبة, حبة واحدة من حبات الغصن الثلاث, انعم بهذه الرحلات , واستغلها استغلالا تاما , واسعد بها ,وكن نصير البيئة مهما كانت الأسباب.

ودع عمار الشجرة المعمرة ,وأسرع بوضع الغصن بين طيات ثيابه وعاد إلى غرفته , وانزوى هناك ,وأحس برغبة شديدة في قطف حبة من هذا الغصن العجيب , وازداد شوقه واستبد به ولم يدر كيف التفت  أنامله حول الحبة الخضراء وقطفها فوجد نفسه في عالم غارق في التاريخ ضارب في أعماقه لم يستطيع تحديده...... وجد نفسه في غابة كثيفة الأشجار , متدلية الأغصان ثمارها على كل الألوان , ثمار ترقص وتغني وتنتقل من شجرة إلى أخرى, تغازلك وتغريك وتنادك ضاحكة  مستبشرة , أحس عمار بالجوع ,فاقترب منه منزعجة أو ساخرة واسود لونها ,وغاب بهرجها, فتعجب عمار , ونظر حوله في استغراب, فاقتربت منه شجرة, ومدت يدها إليه مصافحة وقالت:

-         لا تعجب أيها الغريب ولا تتألم إني أعلم حرصك على تذوق هذه الثمار الشهية اليانعة ولكن عليك أن تدفع الثمن.

-         أدفع الثمن ؟ كيف؟ ولمن.... أنا لا أرى أحدا ولا أملك أيضا نقودا.

فابتسمت الشجرة وقالت:

-         تدفع إلي الثمن.

-         وأي ثمن ؟ رد عمار إني واله لا أملك فلسا ....فإن شئت ....

فزادت ابتسامة الشجرة وقالت:

-         يا بني في هذا العالم لا نتعامل بنقودكم المزيفة.....ولكن إذا أردت الحصول على ثمارنا فعليك أن تأخذ حفنة من النوى , النوى المتساقط هناك تحت الأشجار وتواريه التراب ....تفعل ذلك من أجلي ....ومن أجل جميع الأشجار .....ومن أجل جميع الكائنات .... وعلى قدر النوى نعطيك الثمار.

 دهش عمار وأسرع يجمع البذور ويضمها بحنو فيفي راحتيه وقصد أطراف الغابة حيث واراها الأرض العجيبة, وبسرعة مدهشة شاهدها تنمو وتنمو وتكبر و تكبر حتى صارت شجرات ترقص أوراقها طربا وتغني أغصانها فرحا . وفجأة أحس عمار بيد تمتد نحوه وتقدم له طبقا شهيا من الثمار الناضجة بعدد البذور التي غرسها في التراب....فأقبل يلتهمها بلذة ويطفئ بها ضمأه وهو يشعر بسعادة لم يشعر بها قط في حياته.

واصل عمار رحلته في هذا العالم العجيب حتى وصل قرية سكانها لا يبدو عليهم الهرم ولا الضعف أو الهزال, أجسادهم قوية , قاما تهم مديدة, يمكن أن تتحدي بواحد منهم جميع رياضي العالم ,فيقهرهم وينال جميع ميدالياتهم. زال عجب عمار لما عرف أن السكان هنا لا يهتمون إلا بالموسيقي والرقص ولا ينشغلون إلا بممارسة الرياضة .ينتقلون من مكان إلى آخر ومن بيت إلى بيت بدون حدود أو قيود أو حواجز ,لا تشغلهم الدنيا بمشاغلها ولا يهتمون بأمرها .فالرياضة أكسبتهم الصحة والحب والإخاء والموسيقى فاضت عليهم برقة الإحساس ,وأزالت كل حقد أو كراهية وما همهم والغذاء موجود والغابات كثيفة والأرض معطاء.

نسي عمار نفسه والعالم الذي جاء منه , عاش أياما ينتقل من مكان إلى آخر والأبواب كلها مفتوحة تستقبله بالفرحة وتودعه بالابتسامة , والغابات تفتح له ذراعيها والثمار ترقص ويدخل له أحلى الرقصات .وذات يوم شاهد عمار عصفورا جميلا يرشف قطرات الندى .فاقترب منه و غافلة ومد يده في حركة سريعة عنيفة ليقبض عليه فأحس نفسه يرتفع ويرتفع ويدخل في دوامة عميقة ,عميقة وإذا به مستلق في بيت ابن عمه يفرك عينيه شوقا ويتحسر ندما على ما ضاع منه.

قضى عمار أياما حزينا يائسا ثم تذكر الغصن فجأة.فذهب كالعادة إلى غرفته , وانزوى هناك بعيدا عن الأنظار .مد أصابعه المرتعشة وقطف الحبة الثانية السوداء .فارتفع فجأة في طيات الزمن دهورا ودهورا ,سنوات وسنوات, وفتح عينيه فإذا به في عالم جديد : طرقات ترتفع في كل مكان وبيوت عجيبة من الزجاج وآلات تتحرك في أعجوبة ,وناس يتنفسون هواء اصطناعيا مضغوطا في قوارير , وجوههم شاحبة وعيونهم غابرة وأجسامهم منحنية يتغذون حبوبا ويشربون حبوبا, لا يضحكون, لا تبتسمون .كره عمار العالم الجديد وتلاقفته الآلات وخنقته العبرات لا نبات ,لا حياة, لا بهجة, لا اشتياق . ود الرقص بين أحضان الطبيعة ولكن هيهات فالنبات اصطناعي لا ظل فيه ولا رواء ولا بسمة ولا حنان, واشتاق إلى القرية الجميلة والحياة الهادئة ,تذكر عمار غابة الزيتون وصديقته الشجرة المعمرة .فمد يده كأنه يدعوها إلى نجدته ويرجوها انتشاله من القبر المظلم الذي وجد نفسه فيه و أمسكت أصابعه برقة بالبرعم الأخضر الصغير ,فوجد نفسه يرتفع عاليا...عاليا وإذا به فجأة أمام الزيتونة المعمرة ,فارتمى على جذعها يائسا باكيا وحكى لها غربته بصوت مخنوق و فشاركته حزنه وآلامه وضمته في رفق ثم قالت له بصوت رقيق:

-         مازلت عندك حبة...حبة واحدة لا تفرط فيها وأحسن استغلالها, الوداع يا عمار ,الوداع يا بني....

ودع عمار صديقته الشجرة وانطلق عائدا إلى المدينة خاصة والعطلة أوشكت على نهايتها , وعزم على العناية بالنبات ,و أن يوليه كل اهتماماته . وصل عمار مدرسته فاختار ركنا جميلا مشمسا و وهناك أمسك الحبة الأخيرة المتلألئة وضمها بين أصابعه برفق وواراها التراب فإذا بنبتة صغيرة تعاند قشرة الأرض الهشة وتبتسم له في لطف وتمد أغصانها وتتثاءب وترتفع في الفضاء ضاحكة مستبشرة. وكم كانت دهشة عمار عندما شاهد أصدقاءه التلاميذ يهبون من كل مكان وإلى كل مكان , وكل طفل بيده شجيرة يغرسها أو نواة يطمرها أو حبة يبذرها .... وإذا الأرض غير الأرض والسماء غير السماء......

مهيرة الرقيق