الدرب الشائك
بين جدار تلك الغرفة المظلمة المعتمة, في ركن صغير كانت العناكب قد اتخذت منه مأوى لها فنسجت بيوتها تتصيد فريستها.في ذلك المكان القذر جلست فتاة قد بدأ على وجهها بقايا من جمال أنثوي أخفته أقدام الزمن وبدا من مظهرها أن متاعب الزمن قد أضنتها ولم تترك بجسدها النحيل طاقة لفعل شيء. كانت في أشد حالات اليأس و الإحباط. فاختفت عن وجهها كل الملامح التي تنم عن فرح أو بهجة ذلك أنه بإمكان أي شخص أن يلاحظ من مظهرها اختفاء الفرصة تماما من حياتها البائسة الشقية .أسدلت على كتفيها شعرا أسود وأخفت وجهها بين ذراعيها الشاحبتين لكي لا يبين ذلك الحزن الدفين في عيناها الحوراوين اللتين افتقدتا البريق والدفيء. فكنت ترى فيهما الانكسار وأرخت شفتيها الخاليتين من الحياة وقد شابهما بياض يوحي بالجوع والحرمان. كانت بين فينة وأخرى تدب في جسدها قشعريرة فيعلو صدرها وينخفض في حركة دءوبة ساعد ثوبها الرثّ البالي على إظهارها. جلست القرفصاء وجعلت تلطم وجهها وقد انبعث من حنجرتها حشرجة موت وبأس , وبدأت الخواطر والأفكار تتزاحم في مخيلتها الصغيرة التي لم تقدر إعادة إستعاب شريط حياتها الذي زجّ في رأسها زجّا. وانطلقت صيحة رعب منها وفرطت من لسانها أسئلة لم تعرف كيف تحدّها أو أن تحدد منبعها: لماذا أعيش ؟ أليس هناك في هذه الغابة أحد غيري يتحمل كلّ هذه المصاعب والمتاعب؟ هل أعيش بين بشر أم بين وحوش ؟ وحوش كاسرة استبدت بها الضراوة والهيجان, فانقضت يلاحق بعضها بعضا فلا أحد يفكر في غيره ولا يضع في الحسبان يوم الحساب, يوم يقف أمام الجبار العظيم بما ذا سيبرر ذنوبه المقترفة حتى أنا كنت من هؤلاء الناس ولم أقرأ عواقب أخطائي مع أن الذي دفعني إلى هذه الأخطاء هو التضحية وحب الغير لا من أجل نفسي ,فهل ستغفر لي يا غفور؟ هل ترأف بواحدة من عبادك الضعفاء قد جار عليها الزمن يا رءوف؟ انخفض صوتها شيئا فشيئا إلى أن صمتت تماما وأخذت في استعراض قصّتها التي لا يمكن لعقل بشري أن يتقبلها ببساطة.
تذكرت ذلك اليوم أو تلك الأيام.....حين كانت طفلة في ريعان الصبا الغرير, حيث كانت تعيش في منزل ليس فيه من مرافق الحياة الضرورية شيء يذكر لكنّها كانت سعيدة بتلك الحياة البسيطة, و أسعد أوقاتها عندما تكون في المدرسة , لم تشعر يوما ما بالنقص رغم أنّ أصدقائها كانوا يفوقونها غني وكانوا يسخرون منها للباسها البسيط الرثّ, ولم تكن لتسعد يوما مثل تلك السعادة التي تحس بها عند اللّعب في البطحاء مع الأطفال وتشاكسهم ثم تعود إلى البيت لترتمي في أحضان والديها الذين كانا يحيطانها بكل عطف وحنان وجدت في قلبيهما والتي افتقدتها مع مرور السنوات البطيئة في نظرها لكنها كانت تعجل بوضع حدّ لحياتها الجميلة والنقية وتعكر صفوها فقد وضعتها أمام واقع مؤلم لا بد من مجابهته و التصدي له. فقد وضعتها الأقدار أمام أب نفث في جسده مرض خبيث قد يؤدي بحياته إذا لم تجر له عملية جراحية, وأمّ كسيحة لا تقدر على توفير المبلغ اللازم لتلك العملية,ولا أحد يستطيع ذلك. فوجدت نفسها مخيّرة بين طريقتين إما أن تواصل دراستها وتستمر في تفوّقها , وتحطم أسرة بأكملها بأن تترك الموت يمدّ أذرعه ليحتضن أباها, وأما أن تسلك دربا شائكا يصعب الخروج منه وهو الذي سيضيع عليها كل فرص التألق وتدمّر مستقبلها كلّيا, وهي التي كانت تحلم بمستقبل زاهر, ترفع به رأس والدها المريض الذي عان من مآسي الحياة الكثير في سبيل تنشئتها. ومنذ تلك اللحظة أصبحت حياتها جحيما لا يطاق مقلتاها تعبتا من سهرها طول الليل وبالها مشغول ,فأي ّ الحلين ستختار. كانت كلما قررت الابتعاد عن المسؤولية واستكمال دراستها تراءت لها صورة أبيها المريض على الفراش الموت ينتظر قدومها لإنقاذه, وتخيّلت أمّها مترقبة أن ترّد الجميل, وتبعد براثن الموت عن جسد أبيها العليل. لم يكن لديها طاقة لاحتمال كل ذلك, وتشنجت أعصابها فهل من العدل أن يضع القدر مثل تلك الفتاة البريئة الطاهرة أمام هذا العائق الكبير ويتركها لمجابهته بمفردها وما من أحد يعينها.كان قلبها يخفق بشدة وكأنّه ينذرها بخطر واقع كلّما مضت مدة من الوقت ولم تفق من غيبوبتها إلاّ على صراخ أمّها وانتحابها الشديد فقد فقد أبوها الوعي.....
سارعت بنقله إلى المستشفي وقد اسودت الدنيا في عينيها ولم تقدر على تحديد مصير لحياتها وفوجئت بأمر أسوأ, فقد أعلمها الطبيب أنّ حالة الأب حرجة وخطرة وإذا لم تجر له عملية جراحية خلال ثلاثة أيام على أقصى تقدير فإنه مهدّد بالموت, وما كادت تسمع كلام الطبيب حتى شعرت بأنّها تفقد الوعي ,فسقطت من يدها حقيبتها اليدوية وتبعثر ما بداخلها من متاع فانحنت عليها من دون وعي ولملمتها ثم ركضت مسرعة ولم تدرى أين مقصدها , وتناهى إلى مسمعها صوت أمها وقد حطمه البؤس والشقاء "أنقذي أباك, الوقت يمر"
لم تكن الأمّ واعية تماما لما تقوله فقد حطّم اليأس قلبها وأعمى الخوف بصيرتها ولم تدرك أنّها تحكم على ابنتها بالضياع , ابنتها التي أخذت هذه الكلمات على نحو كبير من الجدية وظل صدى تلك الكلمات يتردّد على مسمعها والأكثر من ذلك صورة والدها وهو يقاوم المرض. فكيف ستنقذه في خلال ثلاثة أيام؟ وهل ستقدر على ذلك؟
ركضت دون إرادتها إلى المعهد الذي يحتفظ بين جدرانه بأجمل ذكريات حياتها التي كانت سعيدة وأحسّت أنّه يجب عليها توديع ذلك المكان الذي لم يعد لها الحق في دخوله بعد الآن. ألقت نظرة الوداع على أصدقاء الطفولة ولوّحت بيدها وترقرقت من عينيها دمعة حزن دفين في أعماقها وذهبت...
ولم تبت تلك الليلة في منزلها فقد قصدت إحدى الملاهي الليلية لتعمل بعد أن أضناها التعب في البحث عن عمل شريف يجنبها المضي في هذا الدرب الشائك لكن بدون جدوى والوقت لم يكن لصالحها, فحياة والدها معرّضة للخطر ومنذ ذلك الحين الذي دخلت فيه ذلك المكان النجس اعتبرت نفسها قد سقطت في هاوية مظلمة.كانت مجّبرة على السقوط فيها للحصول على المال بأيّ شكل , وقد فعلت ذلك ولكنها خسرت أثمن شيء يمكن لفتاة امتلاكه, اكتشفت أن هذا المبدأ هو السائد في المجتمع القاسي ما دفعته ثمنا مقابل المال ذهبت إلى المستشفي ودفعت معلوم إجراء العملية , وبعد أن اطمأنت على والدها أنّه تخطّى مرحلة الخطر فكرت في أن تكتب رسالة إلى أمها تخبرها بما حدث, وتطلب منها أن تسامحها وتغفر لها وأنّها لم تعد تليق بمثل هذه العائلة بعد أن أصبحت تجلب العار ولكنها قررت التريّث حتى ترى ما سيؤول إليه وضعها ولما خرج أبوها من المستشفي , وعاد إلى البيت . ولم تمر بضعة أيام حتى اكتشفت الاحتقار في أعينهم فلم يقدّر أحد ظروفها لم تستطع تحمّل تلك النظرة المشبعة بالازدراء وقررت الرحيل....
وانطلقت بين تلك الدروب الطويلة المكتظة ولم يعد لها في هذه الدنيا شيء يستحق أن تحرص عليه لقد أمضت طفولتها في وضع أمانيها فوق النجوم دراسة عائلتها لن تستطيع الرجوع إليهما مضت تبحث عن مأوى تبيت فيه تلك الليلة ولم يكن لديها ما تستطيع أ تشتري به شيئا يؤكل ولم يبق لديها شيء تقايض به... ومازالت كذلك حتى وجدت بيتا مهجورا ينعق فيه البوم وكانت مصائب الحياة قد جرّدتها من كل إحساس فلم تشعر بالخوف ومرت عليها الأيام وهي تعيش بين جدران ذلك المنزل المعتم....
و في الصباح الموالي وقفت وقفة شديدة بعد أن استعادت رابطة جأشها بعد تلك الذكريات المؤلمة , ومشت بسعادة كبيرة تغمرها لأول مرة عندما شعرت بأنها ستصبح جزءا من هذا الأقيانوس العظيم وهوّت بجسدها النحيل , وقد أشرق وجهها بنور فيّض وطوّحت بها الأمواج , ولم تشأ روحها الصعود رغم استسلام جسدها للموت فقد بدا خالي تماما من الحياة رغم نظارته ولوّحت الأمواج بيدها وكأنها تحيي الناس الذين اصطفوا على ضفاف النيل , وقد اتسعت عيونهم أسى ودهشة وحزنا. وبدأ الأقاويل تنبعث من المتفرجين ولقد اختلفت مواقفهم و أحاسيسهم بين الحزن والدهشة.
كان هذا هو مصير الفتاة المؤلم فقد لقيت حذفها وألقت حمو لها على هذه الدنيا القاسية ومن يتخيّل أن تلك الفتاة البريئة التي اجتمعت فيها كل صفات الكمال قد تضعها الأقدار أمام هذا المصير القاتم وفي هذا الدرب الشائك , ليقودها نحو طريق لا رجوع فيه, ليقودها إلى الهلاك....
نادية بن خليفة (9 أ)