إ ن حبنا لمسقط الرأس لا يقل درجة أو شأنا عن حبنا لو طننا إذ ا ما علمنا أ ن الشعوريين ينبعان من معني واحد ألا وهو الإنسان. لذا فإن هذا الشعور المقدس والنبيل لا يدفعني لا أن أقدم هذه القرية فقط بل يجرني إلى إبراز دورها التاريخي وجذورها الحضارية, كيف لا وهي أقدم قرية بمعتمدية مساكن ولها ماض مجيد.

   في البداية دعني أضع هذه القرية في إطارها العام, إن المتصفح لكتب التاريخ يجد أن أربع أدوار هامة تقاسمت تاريخ البلاد التونسية وهي على التوالي:

 

الفترة الأ ولى:  الدور القرطاجي من 900 ق م إلى 146 ق م وقد تميزت هذه الفترة بكثرة الحروب  وبسقوط قرطاج واستيلاء روما على تونس.

 

الفترة الثانية: الدور الروماني الذي تواصل من 146 ق م إلى 439 م وهو مهم بالنسبة إلينا  لأنه يمثل الحضارة الرومانية كلها التي تركت بصمتها واضحة في قريتنا. فإلى جانب اعتناء الرومان بالفلاحة فقد اهتموا أيما اهتمام بالعمران و أقاموا مدنا فيها معالم جليلة خاصة حول الأماكن التي وجدوا بها مياه عذبة, والكنايس تمثل حقبة من الحضارة الرومانية وهنا نتساءل  أين يظهر ذلك ؟ 

     

     هل توفر عنصر الماء في المنطقة ؟ وهل كانت المياه عذبة حتى تجلب السكان لبناء الحضارة؟

 

إ ن ما نعرفه أن الرومان اهتموا بحفر الآبار والصهاريج لتخزين المياه, فهل وجد هذا بالكنايس ؟ نعم, إن الذي يعرف الكنايس يعرف بالضرورة كثرة الآبار القديمة مثل "بئر أولاد سالم صميدة" وغيره دليل على أنه روماني قديم وهو مشيد على ضفة"القرعة" التي تصب  فيها مجموعة من أودية تجعل المائدة قريبة وغنية.

 

 

 إذا ما أمعنا النظر في "القرعة"ومناطق "زماح", "بقلوط", "الصطاطر", "حمادة بولكعايل"و "فدان بن سعد" كل هذه الأماكن وجدنا بها معالم أثرية تشهد بأن المنطقة لها جذور رومانية. أما أثار مسرح الهواء الطلق الذي تظهر بقاياه بمنطقة "الداموس" فهو دليل على أن هذه القرية نالها نصيب من الحضارة لأن العارف بالتاريخ والآثار يعرف أن منطقة سكنية في العهد الروماني وبها مسرح يعني منطقة بلدية أي "مدينة حضارية". ووجود بقايا هذا المسرح دليل على أن الكنايس اليوم وهي قرية بسيطة كانت بالأمس مدينة رومانية عظيمة واسمها "زيطا"و عند تصفحنا لكتاب تاريخي بعنوان " تاريخ تونس" للمؤرخ "أوقست باقي" وجدنا أنه في حديثه لوقائع القائد الروماني"سيزار" تعرض إلى منطقة الساحل وتحدث عن المعارك التي جرت فوق هضاب وسهول هذه المنطقة فأشار إلى وجود مدينة سميت "زيطا" ويقول المؤرخ في كتابه أن هذه المدينة هي الكنايس اليوم.

 

الفترة الثالثة: الدور البيزنطي   أتى إثر الو ندال و لم يعمر إلا قرابة 95 سنة قضوا جلها في حالة حروب مع الرومان وقبائل البربر وجمع الأموال وهذا ما صدهم عن الاهتمام بأحوال البلاد والعباد.

 

    الفترة الرابعة: الدور الإسلامي:   ما إن حلت سنة 648 م الموافق لسنة 27 هجري حتى بدأ العصر الإسلامي في عهد الخليفة عثمان بن عفان. تقبلت بلادنا تونس هذا العهد بكل ارتياح وكان لقريتنا الكنايس دورا رائدا في هذا العهد, والمتثبت في الخريطة المرسومة للعهد الإسلامي و الموجودة حاليا في متحف رباط المنستير, يرى وبكل وضوح أن الكنايس وجدت في ذلك العهد, وهي مركز رئيسي آنذاك على الطريق الرابطة بين مدينتي المهدية والقيروان,    وهي النقطة الرئيسية التي كانت مكان استراحة للمسافرين وخاصة العلماء منهم ورجال الدين مثل سيدي "أبي يوسف الدهماني"المدفون بالقيروان.لقد كانت الكنايس إذن مكان استراحة ولقاء للذين يعبرون بين القيروان والمهدية وحتى الجم, وهي مدن عريقة وتاريخية.

 

أما الفسقية الموجودة بمنطقة "الزيات" والأخرى الموجودة بمنطقة "هنشير الصغير" هما أكبر دليل على وجود العهد الإسلامي والحضارة الإسلامية, إذن الفسقيتين قد بنيتا تقريبا بنفس الطابع الهندسي الموجود في فسقية الأغالبة بالقيروان وربما يمكن القول أن المسلمين باعتبار وجودهم كان بعد الرومان وقد ترك هؤلاء معالم أثرية بالمنطقة فعندما وجدها المسلمون, كانوا يسمون المعلم الروماني بالكنيسة فعندما وجدوا هذه المعالم سموا المنطقة كلها " بالكنايس ": هذه هي قرية الكنايس التي عاشت وترعرعت في أحضان حضارات عظيمة وهي لا تزال واقفة شامخة تساهم في بناء التاريخ وخاصة منذ عهد التغيير الذي دخله من بابه الواسع.

        تحقيق: محمد قرميط                                                   

                   اختيار وتنقيح:  محمد بن فرج